الجزء الثاني لتحليل رواية اللص والكلاب
تقديم
يمكن تناول اللصّ
والكلاب باعتبارها معالَجة قَصصيّة لضياع الإنسان المعاصر الباحث عن الخير والخلاص
في دوّامة عصر تُخان فيه المبادئ أو يُتنكَّر لها؛ أو باعتبارها إدانة لمجتمع أو عالم
أو نظام يسمح بوجود ما ينغّص الحياة ويجعل ظروفها قاسية على أبنائها، فتُلزمهم باختيار
مسلكيّات لا يتقبّلها المجتمع ولا القانون. المجتمع لا يتكفّل بالقضاء على بواعث الشرور
(وكذلك القوانين لا تتكفّل بذلك)، وفي الآن ذاته يتكفّل بنبذ ومعاقبة مَن تدفعه الفاقة
والبحث عمّا يبقي الجسد على قيد الحياة إلى السرقة (كما في حالة سعيد مهران)، أو إلى
بيع الجسد (أو امتهان الجسد – كما في حالة نور). إضافة إلى هذا، اللصوصيّة المنسوبة
إلى سعيد هي لصوصيّة بالمعنى العاديّ المباشر البسيط. أمّا عليش ونبويّة فهما لصّان
بالمعنى المعقّد، إذ سرقا ما لا يُدرَك بالعين واليد، ورؤوف لصّ بالمعنى الكلّيّ، سرق
مجتمعًا بأسره، وحوّل مسيرته، وذلك حين رفع شعارات معيّنة وسلك ضدّها، لينعم أخيرًا
في الرخاء المادّيّ الذي كان للذين أشار إلى فسادهم ونادى بوجوب تقويضهم.
الرواية تدين المجتمع
الرواية تواجه وتدين مجتمعًا
كاملاً من خلال مَن يعتبرهم المجتمع نفسه مجرمين أو ساقطين، فهؤلاء في الغالب، هم إفرازات
لظروف اجتماعيّة رديئة حوّلتهم إلى ما هم عليه، وفي هذا الصدد يقول أنور المعدّاوي:
"سعيد مهران بكلّ ميوله النفسيّة الناقمة لم يكن إلاّ نمطًا إنسانيّا صنعته ظروف
ضاغطة، ظروف اجتماعيّة حدّدت خطّ سيره في طريق الحياة، لقد نشأ محرومًا من كلّ الفرص
التي تهيّئ للفرد كرامة الشعور بأنّه إنسان، ثمّ عرف خيانة الزوجة، وتنكّر الابنة وغدر
الصديق وضياع كلّ وسائل الإنقاذ".
الرواية تعرّي الانتهازيّين والمنتفعين
الرواية تعرّي أولئك الانتهازيّين
والمنتفعين من الثورة، أولئك الذين حوّلوا الثورة إلى وسيلة لتكديس الثروة على حساب
الشعب، الكاتب ينتقد انحرافات ثورة يوليو (ثورة الضبّاط الأحرار في مصر، عام 1952)،
من خلال تركيزه على خيانة المبادئ، ويمثّل هذه الخيانةَ مسلكُ رؤوف علوان، رؤوف هذا،
كما يعبّر عن ذلك أحد نقّاد الأدب، نموذج للثوريّ الناقص الذي يُشتَرى بسهولة، نموذج
حيّ للخيانة، نموذج واعٍ بالخيانة (بمعنى أنّه مدرك لفعله الخيانيّ إدراكًا تامًّا
– لكنّه يبرّر سقوطه بتحايل لفظيّ حين يصف تراجعه عن أفكاره السابقة، أفكار الحرّيّة
والعدل والاشتراكيّة، بأنّه "هدنة" لا تراجع ولا خيانة)، خيانته خيانة فكريّة،
خيانة للأفكار وللمبادئ - ومن هنا خطورتها، بل إنّ مهران يعتبرها "خيانة عظمى"،
فهو يرى أستاذه الثوريّ القديم الذي علّمه أن يحمل المعرفة بيد والمسدّس باليد الأخرى
يخون القضيّة وينتقل إلى الضفّة الأخرى جاعلاً من الشعارات الثوريّة أقنعة لاتّجاهه
المحافظ (أي الذي يرضى بالوضع القائم، ويدافع عنه، ويبرّر أخطاءه، ويسعى إلى ترسيخها،
لأنّ مصلحته الشخصيّة تتطلّب الإبقاء على هذا الوضع أو على هذا النظام)، من هنا نقول
إنّ الكاتب ومن خلال شخصيّة رؤوف، يعرّي طبقة أو شريحة أو فئة اجتماعيّة، فرؤوف يمثّل
تلك الفئة أو النوعية من المثقّفين التي تستثمر ماضيها الثوريّ لتجني ثمار الحاضر المتمثّل
في نظام يمارس عكس ما يدعو إليه، نظام غير مخلص لمبادئه، تلك فئة منتفعة، حقّقت مصالحها
الشخصيّة على حساب الثورة، أو بفضل رصيد الأفكار الثوريّة التي تبنّتها ماضيًا واستغنت
عنها حاضرًا.
الإخلاص في الرواية
في المقابل، تبدو المومس
نور مخلصة لسعيد بلا حدود (وهنا المفارقة؛ الزوجة نموذج خيانة وسقوط، والمومس نموذجيّة
في الإخلاص)، تبدو - كما يبدو سعيد – جرحًا من جراح المجتمع وفريسةً لظلمه ولمفاسده،
ضحيّةً أخرى من ضحايا نظام اجتماعيّ جائر، هي شخصيّةٌ ظاهرُها الدعارة، وباطنها البؤس
والضحويّة، وفي هذا الصدد، نشير إلى ما قاله نجيب محفوظ بنفسه حين سُئل "لماذا
تستأثر المومس بمكانة كبرى في كتاباتك؟"، إذ أجاب: "المومس تنفع الناقد الاجتماعيّ
جدًّا، لأنّك تواجه بها شخصيّات بارزة ظاهرها الطهارة وباطنها الدعارة، بينما هذه ظاهرها
الدعارة وباطنها يمكن أن يكون البؤس، ولذا فهي مثال صالح للنقد القاسي".
دور التصوف
في ما يتعلّق بشخصيّة
الشيخ علي الجنيدي، صحيح أنّه أظهرَ تعاطفًا، لكنّ تعاطفه اقترن بغموض رموزه واستعلاء
لغته، فسعيد لم ينل من الشيخ إلاّ مواعظ من الصعب أن تؤثّر في مَن هو في مثل حاله.
خلاصة
الشيخ يقدّم له الراحة
والطمأنينة والصفاء، غير أنّه لا يقدّم له حلاًّ لقضيّته، مقابل ذلك قدّمت له نور الحبَّ،
ومن ناحية أخرى المسدّس يخذله في تحقيق ما يبتغي ويقوده من إخفاق إلى إخفاق، وفقًا
للأحداث ومدلولاتها، كلّ هذا يعني:
- أنّ الدين وحده، ممثَّلاً
بطريق التصوّف، لا يقدّم حلاًّ.
- أنّ الحبّ لوحده لا يكفي.
- أنّ التمرّد الفرديّ عاجز
قاصر.
العمل الفرديّ الفوضويّ
يفضي إلى التهلكة (وهذا ما جرى لمهران، الذي تطلّع إلى الخلاص، إلى رؤيا بشريّة عامّة،
فظنّها في الفتوّة الفرديّة، في الرفض الفرديّ للمجتمع، ظنّ الخلاص في الهدم الفوضويّ؛
ّفانتهى به عمله الفرديّ الفوضويّ هذا إلى تدميره هو، إلى الموت وحيدًا معزولاً ضائعًا).
تعليقات: 0
إرسال تعليق